فصل: تفسير الآيات رقم (14 - 15)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏14 - 15‏]‏

‏{‏وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ‏}‏

يقول ‏[‏الله‏]‏‏:‏ ‏{‏وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ‏}‏ أيها الخائضون في شأن عائشة، بأن قبل توبتكم وإنابتكم إليه في الدنيا، وعفا عنكم لإيمانكم بالنسبة إلى الدار الآخرة، ‏{‏لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ‏}‏، من قضية الإفك، ‏{‏عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏‏.‏ وهذا فيمن عنده إيمان رزقه الله بسببه التوبة إليه، كمِسْطَح، وحسان، وحَمْنةَ بنت جحش، أخت زينبَ بنت جحش‏.‏ فأما من خاض فيه من المنافقين كعبد الله بن أبي بن سلول وأضرابه، فليس أولئك مرادين في هذه الآية؛ لأنه ليس عندهم من الإيمان والعمل الصالح ما يعادل هذا ولا ما يعارضه‏.‏ وهكذا شأن ما يرد من الوعيد على فعل معين، يكون مطلقًا مشروطا بعدم التوبة، أو ما يقابله من عَمَل صالح يوازنُه أو يَرجح عليه‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ‏}‏ قال مجاهد، وسعيد بن جبير‏:‏ أي‏:‏ يرويه بعضكم عن بعض، يقول هذا‏:‏ سمعته من فلان، وقال فلان كذا، وذكر بعضهم كذا‏.‏

وقرأ آخرون ‏"‏ إِذْ تَلقُونَه بِأَلْسِنَتِكُمْ‏"‏‏.‏ وفي صحيح البخاري عن عائشة‏:‏ أنها كانت تقرؤها كذلك وتقول‏:‏ هو مِنْ وَلَق القول‏.‏ يعني‏:‏ الكذب الذي يستمر صاحبه عليه ، تقول العرب‏:‏ وَلَق فلان في السير‏:‏ إذا استمر فيه، والقراءة الأولى أشهر، وعليها الجمهور، ولكن الثانية مَرْويَّة عن أم المؤمنين عائشة‏.‏

قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدَّثنا أبو سعيد الأشَجّ، حدثنا أبو أسامة، عن نافع بن عمر ، عن ابن أبي مليكة، ‏[‏عن عائشة أنها كانت تقرأ‏:‏ ‏"‏إِذْ تَلقُونَه ‏"‏ وتقول‏:‏ إنما هو وَلَق القول -والوَلَق‏:‏ الكذب‏.‏ قال ابن أبي مليكة‏]‏‏:‏ هي أعلم به من غيرها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ‏}‏ أي‏:‏ تقولون ما لا تعلمون‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ تقولون ما تقولون في شأن أم المؤمنين، وتحسبون ذلك يسيرا ‏[‏سهلا‏]‏ ولو لم تكن زوجة النبي صلى الله عليه وسلم لما كان هَيِّنا، فكيف وهي زوجة النبي الأمي، خاتم الأنبياء وسيد المرسلين، فعظيم عند الله أن يقال في زوجة رسوله ما قيل‏!‏ الله يغار لهذا، وهو سبحانه وتعالى، لا يُقَدِّر على زوجة نبي من أنبيائه ذلك، حاشا وكَلا ولما ‏[‏لم يكن ذلك‏]‏ فكيف يكون هذا في سيدة نساء الأنبياء، وزوجة سيد ولد آدم على الإطلاق في الدنيا والآخرة‏؟‏‏!‏ ولهذا قال تعالى ‏{‏وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ‏}‏، وفي الصحيحين‏:‏ إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سَخَط الله، لا يدري ما تَبْلُغ، يهوي بها في النار أبْعَد ما بين السماء والأرض‏"‏ وفي رواية‏:‏ ‏"‏لا يلقي لها بالا‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16 - 18‏]‏

‏{‏وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏}‏

هذا تأديب آخر بعد الأول‏:‏ الآمر بالظن خيرا أي‏:‏ إذا ذكر ما لا يليق من القول في شأن الخيرة فأولى ينبغي الظن بهم خيرا، وألا يشعر نفسه سوى ذلك، ثم إن عَلِق بنفسه شيء من ذلك -وسوسةً أو خيالا -فلا ينبغي أن يتكلم به، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إن الله تجاوز لأمتي عما حدَّثت به أنفسها ما لم تقل أو تعمل‏"‏ أخرجاه في الصحيحين‏.‏

وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا‏}‏ أي‏:‏ ما ينبغي لنا أن نتفوه بهذا الكلام ولا نذكره لأحد ‏{‏سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ سبحان الله أن يقال هذا الكلام على زوجة ‏[‏نبيه و‏]‏ رسوله وحليلة خليله‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا‏}‏ أي‏:‏ ينهاكم الله متوعِّدًا أن يقع منكم ما يشبه هذا أبدًا، أي‏:‏ فيما يستقبل‏.‏ فلهذا قال‏:‏ ‏{‏إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏}‏ أي‏:‏ إن كنتم تؤمنون بالله وشرعه، وتعظمون رسوله صلى الله عليه وسلم، فأما من كان متصفا بالكفر فذاك له حكم آخر‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ‏}‏ أي‏:‏ يوضح لكم الأحكام الشرعية والحِكَمَ القَدَريّة، ‏{‏وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ عليم بما يصلح عباده، حكيم في شَرْعه وقَدَره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ‏}‏

وهذا تأديب ثالث لمن سمع شيئا من الكلام السيئ، فقام بذهنه منه شيء،وتكلم به، فلا يكثر منه ويشيعه ويذيعه، فقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ أي‏:‏ يختارون ظهور الكلام عنهم بالقبيح، ‏{‏لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا‏}‏ أي‏:‏ بالحد، وفي الآخرة بالعذاب، ‏{‏وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ فردوا الأمور إليه تَرْشُدُوا‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا محمد بن بكر، حدثنا ميمون بن أبي محمد المَرَئيّ، حدثنا محمد بن عَبّاد المخزومي، عن ثَوْبَان، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏لا تُؤذوا عِبادَ الله ولا تُعيِّروهم، ولا تطلبوا عوراتهم، فإنه من طلب عورة أخيه المسلم، طلب الله عورته، حتى يفضحه في بيته‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20 – 21‏]‏

‏{‏وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ لولا هذا لكان أمر آخر، ولكنه تعالى رؤوف بعباده، رحيم بهم‏.‏ فتاب على من تاب إليه من هذه ‏[‏القضية‏]‏ وطَهَّر من طَهَّر منهم بالحد الذي أقيم عليه‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ‏}‏ يعني‏:‏ طرائقه ومسالكه وما يأمر به، ‏{‏وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ‏}‏‏:‏ هذا تنفير وتحذير من ذلك، بأفصح العبارة وأوجزها وأبلغها وأحسنها‏.‏

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ‏}‏‏:‏ عمله‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ نزغاته‏.‏ وقال قتادة‏:‏ كل معصية فهي من خطوات الشيطان‏.‏ وقال أبو مِجْلَز‏:‏ النذور في المعاصي من خطوات الشيطان‏.‏

وقال مسروق‏:‏ سأل رجل ابن مسعود فقال‏:‏ إني حرمت أن آكل طعامًا‏؟‏ فقال‏:‏ هذا من نزعات الشيطان، كَفِّر عن يمينك، وكُل‏.‏

وقال الشعبي في رجل نَذَر ذَبْح ولده‏:‏ هذا من نزغات الشيطان، وأفتاه أن يذبح كبشًا‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا حسان بن عبد الله المصري، حدثنا السريّ بن يحيى، عن سليمان التيمي، عن أبي رافع قال‏:‏ غضبت عليَّ امرأتي فقالت‏:‏ هي يومًا يهودية، ويومًا نصرانية، وكل مملوك لها حر، إن لم تطلق امرأتك‏.‏ فأتيت عبد الله بن عمر فقال‏:‏ إنما هذه من نزغات الشيطان‏.‏ وكذلك قالت زينب بنت أم سلمة، وهي يومئذ أفقه امرأة بالمدينة، وأتيت عاصم بن عمر، فقال مثل ذلك‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا‏}‏ أي‏:‏ لولا هو يرزق من يشاء التوبة والرجوع إليه، ويزكي النفوس من شركها وفجورها ودسها وما فيها من أخلاق رديئة، كل بحسبه، لما حصل أحد لنفسه زكاة ولا خيرا ‏{‏وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ‏}‏ أي‏:‏ من خلقه، ويضل من يشاء ويرديه في مهالك الضلال والغي‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ سَمِيعٌ‏}‏ أي‏:‏ سميع لأقوال عباده ‏{‏عليم‏}‏ بهم، مَنْ يستحق منهم الهدى والضلال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا يَأْتَلِ‏}‏ من الأليَّة، ‏[‏وهي‏:‏ الحلف‏]‏ أي‏:‏ لا يحلف ‏{‏أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ‏}‏ أي‏:‏ الطَّول والصدقة والإحسان ‏{‏وَالسَّعَة‏}‏ أي‏:‏ الجِدَةَ ‏{‏أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ لا تحلفوا ألا تصلوا قراباتكم المساكين والمهاجرين‏.‏ وهذه في غاية الترفق والعطف على صلة الأرحام؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا‏}‏ أي‏:‏ عما تقدم منهم من الإساءة والأذى، وهذا من حلمه تعالى وكرمه ولطفه بخلقه مع ظلمهم لأنفسهم‏.‏

وهذه الآية نزلت في الصدِّيق، حين حلف ألا ينفع مِسْطَح بن أثاثة بنافعة بعدما قال في عائشة ما قال، كما تقدم في الحديث‏.‏ فلما أنزل الله براءةَ أم المؤمنين عائشة، وطابت النفوس المؤمنة واستقرت، وتاب الله على مَن كان تكلم من المؤمنين في ذلك، وأقيم الحد على مَن أقيم عليه -شَرَع تبارك وتعالى، وله الفضل والمنة، يعطفُ الصدِّيق على قريبه ونسيبه، وهو مِسْطَح بن أثاثة، فإنه كان ابن خالة الصديق، وكان مسكينًا لا مال له إلا ما ينفق عليه أبو بكر، رضي الله عنه، وكان من المهاجرين في سبيل الله، وقد وَلَق وَلْقَة تاب الله عليه منها، وضُرب الحد عليها‏.‏ وكان الصديق، رضي الله عنه، معروفًا بالمعروف، له الفضل والأيادي على الأقارب والأجانب‏.‏ فلما نزلت هذه الآية إلى قوله‏:‏ ‏{‏أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ فإن الجزاء من جنس العمل، فكما تغفر عن المذنب إليك نغفر لك، وكما تصفح نصفح عنك‏.‏ فعند ذلك قال الصديق‏:‏ بلى، والله إنا نحب -يا ربنا -أن تغفر لنا‏.‏ ثم رَجَع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة، وقال‏:‏ والله لا أنزعها منه أبدًا، في مقابلة ما كان قال‏:‏ والله لا أنفعه بنافعة أبدًا، فلهذا كان الصدّيق هو الصديق ‏[‏رضي الله عنه وعن بنته‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23 – 25‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ‏}‏

هذا وعيد من الله تعالى للذين يرمون المحصنات الغافلات -خُرِّج مخرج الغالب -المؤمنات‏.‏

فأمهات المؤمنين أولى بالدخول في هذا من كل محصنة، ولا سيما التي كانت سبب النزول، وهي عائشة بنت الصديق، رضي الله عنهما‏.‏

وقد أجمع العلماء، رحمهم الله، قاطبة على أن مَنْ سَبَّها بعد هذا ورماها بما رماها به ‏[‏بعد هذا

الذي ذكر‏]‏ في هذه الآية، فإنه كافر؛ لأنه معاند للقرآن‏.‏ وفي بقية أمهات المؤمنين قولان‏:‏ أصحهما أنهن كهي، والله أعلم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏ كقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 57‏]‏‏.‏

وقد ذهب بعضهم إلى أنها خاصة بعائشة، فقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا عبد الله بن خِرَاش، عن العَوَّام، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ‏}‏ ‏[‏قال‏]‏‏:‏ نزلت في عائشة خاصة‏.‏

وكذا قال ‏[‏سعيد بن جبير و‏]‏ مقاتل بن حيان، وقد ذكره ابن جرير عن عائشة فقال‏:‏

حدثنا أحمد بن عَبْدَة الضَّبِّي، حدثنا أبو عَوَانة، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه قال‏:‏ قالت عائشة‏:‏ رُميت بما رميت به وأنا غافلة، فبلغني بعد ذلك‏.‏ قالت‏:‏ فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس عندي إذ أوحي، إليه‏.‏ قالت‏:‏ وكان إذا أوحي إليه أخذه كهيئة السُّبات، وإنه أوحي إليه وهو جالس عندي، ثم استوى جالسا يمسح على وجهه، وقال‏:‏ ‏"‏يا عائشة أبشري‏"‏‏.‏ قالت‏:‏ قلت‏:‏ بحمد الله لا بحمدك‏.‏ فقرأ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ‏}‏، حتى قرأ‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 26‏]‏‏.‏

هكذا أورده، وليس فيه أن الحكم خاص بها، وإنما فيه أنها سبب النزول دون غيرها، وإن كان الحكم يعمها كغيرها، ولعله مراد ابن عباس ومن قال كقوله، والله أعلم‏.‏

وقال الضحاك، وأبو الجوزاء، وسلمة بن نُبَيْط‏:‏ المراد بها أزواج النبيّ خاصة، دون غيرهن من النساء‏.‏

وقال العَوْفِيّ، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ‏}‏ الآية‏:‏ يعني أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، رماهن أهل النفاق، فأوجب الله لهم اللعنة والغضب، وباؤوا بسخط من الله، فكان ذلك في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ثم نزل بعد ذلك‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏، فأنزل الله الجلد والتوبة، فالتوبة تقبل، والشهادة تُرَدّ‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثنا هُشَيْم، أخبرنا العوام بن حوشب، عن شيخ من بني أسد، عن ابن عباس -قال‏:‏ فسر سورة النور، فلما أتى على هذه الآية‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا‏}‏ الآية -قال‏:‏ في شأن عائشة، وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وهي مبهمة، وليست لهم توبة، ثم قرأ‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا‏}‏ الآية ‏[‏النور‏:‏ 4، 5‏]‏، قال‏:‏ فجعل لهؤلاء توبة ولم يجعل لمن قذف أولئك توبة، قال‏:‏ فهمّ بعضُ القوم أن يقوم إليه فيقبل رأسه، من حسن ما فسَّر به سورة النور‏.‏

فقوله‏:‏ ‏"‏وهي مبهمة‏"‏، أي‏:‏ عامة في تحريم قذف كل محصنة، ولَعْنته في الدنيا والآخرة‏.‏

وهكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏:‏ هذا في عائشة، ومن صنع مثل هذا أيضًا اليوم في المسلمات، فله ما قال الله، عز وجل، ولكن عائشة كانت إمامَ ذلك‏.‏

وقد اختار ابن جرير عمومها، وهو الصحيح، ويعضد العموم ما رواه ابن أبي حاتم‏:‏

حدثنا أحمد بن عبد الرحمن -ابن أخي ابن وهب -حدثنا عمي، حدثنا سليمان بن بلال، عن ثور بن زيد، عن أبي الغَيث عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏اجتنبوا السبع الموبقات‏"‏‏.‏ قيل‏:‏ يا رسول الله، وما هن‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات‏"‏‏.‏ أخرجاه في الصحيحين، من حديث سليمان بن بلال، به‏.‏

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني‏:‏ حدثنا محمد بن عَمْرو بن خالد الحَذَّاء الحراني، حدثني أبي، وحدثنا أبو شُعَيب الحراني، حدثنا جدي أحمد بن أبي شُعَيب، حدثنا موسى بن أعين، عن ليث، عن أبي إسحاق، عن صِلَة بن زُفَر، عن حذيفة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏‏"‏قذف المحصنة يهدم عمل مائة سنة‏"‏‏.‏

وقوله ‏{‏يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ قال ابن أبي حاتم‏:‏

حدثنا أبو سعيد الأشَجّ، حدثنا أبو يحيى الرازي، عن عمرو بن أبي قيس، عن مُطَرِّف، عن المِنْهَال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال‏:‏ إنهم -يعني‏:‏ المشركين -إذا رَأوا أنه لا يدخلُ الجنةَ إلا أهل الصلاة، قالوا‏:‏ تعالوا حتى نجحد‏.‏ فيجحدون فيختم ‏[‏الله‏]‏ على أفواههم، وتشهد أيديهم وأرجلهم، ولا يكتمون الله حديثًا‏.‏

وقال ابن جرير، وابن أبي حاتم أيضًا‏:‏ حدثنا يونس بن عبد الأعلى، حدثنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن دَرَّاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، عن رسول الله صلى عليه وسلم قال‏:‏‏"‏إذا كان يوم القيامة، عُرف الكافر بعمله، فيجحد ويخاصم، فيقال له‏:‏ هؤلاء جيرانك يشهدون عليك‏.‏ فيقول‏:‏ كذبوا‏.‏ فيقول‏:‏ أهلك وعشيرتك‏.‏ فيقول‏:‏ كذبوا، فيقول‏:‏ احلفوا‏.‏ فيحلفون، ثم يُصمِتهم الله، فتشهد عليهم أيديهم وألسنتهم، ثم يدخلهم النار‏"‏‏.‏

وقال ابن أبي حاتم أيضًا‏:‏ حدثنا أبو شيبة إبراهيم بن عبد الله بن أبي شيبة الكوفي، حدثنا مِنْجَاب بن الحارث التميمي حدثنا أبو عامر الأسَدِيَ، حدثنا سفيان، عن عبيد المُكْتب، عن فُضَيل بن عمرو الفُقَيمي، عن الشعبي، عن أنس بن مالك قال‏:‏ كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فضحك حتى بدت نَوَاجذُه، ثم قال‏:‏ ‏"‏أتدرون مِمَّ أضحك‏؟‏‏"‏ قلنا‏:‏ الله ورسوله أعلم‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏من مجادلة العبد ربه يوم القيامة، يقول‏:‏ يا رب، ألم تُجِرْني من الظلم‏؟‏ فيقول‏:‏ بلى‏.‏ فيقول‏:‏ لا أجيز عليَّ شاهدًا إلا من نفسي‏.‏ فيقول‏:‏ كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا، وبالكرام عليك شهودا فيختم على فيه، ويقال لأركانه‏:‏ انطقي فتنطق بعمله، ثم يخلى بينه وبين الكلام، فيقول‏:‏ بُعدًا لَكُنّ وسُحْقًا، فعنكُنَّ كنتُ أناضل‏"‏‏.‏

وقد رواه مسلم والنسائي جميعا، عن أبي بكر بن أبي النضر، عن أبيه، عن عُبَيد الله الأشجعي، عن سفيان الثوري، به ثم قال النسائي‏:‏ لا أعلم أحدا روى هذا الحديث عن سفيان الثوري غير الأشجعي، وهو حديث غريب، والله أعلم‏.‏ هكذا قال‏.‏

وقال قتادة‏:‏ ابن آدم، والله إن عليك لَشُهودًا غيرَ متهمة من بدنك، فراقبهم واتق الله في سرك وعلانيتك، فإنه لا يخفى عليه خافية، والظلمة عنده ضوء والسر عنده علانية، فمن استطاع أن يموت وهو بالله حسن الظن، فليفعل ولا قوة إلا بالله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏دِينَهُمُ‏}‏ أي‏:‏ حسابهم، وكل ما في القرآن ‏{‏دِينَهُمُ‏}‏ أي‏:‏ حسابهم‏.‏ وكذا قال غير واحد‏.‏

ثم إن قراءة الجمهور بنصب ‏{‏الْحَقَّ‏}‏ على أنه صفة لدينهم، وقرأ مجاهد بالرفع، على أنه نعت الجلالة‏.‏ وقرأها بعض السلف في مصحف أبي بن كعب‏:‏ ‏"‏يومئذ يوفيهم الله الحقّ دينهم‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ‏}‏ أي‏:‏ وعده ووعيده وحسابه هو العدل، الذي لا جور فيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ‏}‏

قال ابن عباس‏:‏ الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من القول‏.‏ والطيبات من القول، للطيبين من الرجال، والطيبون من الرجال للطيبات من القول‏.‏ قال‏:‏ ونزلت في عائشة وأهل الإفك‏.‏

وهكذا رُوي عن مجاهد، وعطاء، وسعيد بن جُبَير، والشعبي، والحسن بن أبي الحسن البصري، وحبيب بن أبي ثابت، والضحاك‏.‏ واختاره ابن جرير، ووجَّهَهُ بأن الكلام القبيح أولى بأهل القبح من الناس، والكلام الطيب أولى بالطيبين من الناس، فما نسبه أهل النفاق إلى عائشة هم أولى به، وهي أولى بالبراءة والنزاهة منهم؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ‏}‏ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ‏}‏‏.‏

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏:‏ الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء، والطيبات من النساء للطيبين من الرجال، والطيبون من الرجال للطيبات من النساء‏.‏

وهذا -أيضًا -يرجع إلى ما قاله أولئك باللازم، أي‏:‏ ما كان الله ليجعل عائشة زوجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهي طيبة؛ لأنه أطيب من كل طيب من البشر، ولو كانت خبيثة لما صلحت له، لا شرعا ولا قدرا؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ‏}‏ أي‏:‏ هم بُعَداء عما يقوله أهل الإفك والعدوان، ‏{‏لَهُمْ مَغْفِرَةٌ‏}‏ أي‏:‏ بسبب ما قيل فيهم من الكذب، ‏{‏وَرِزْقٌ كَرِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ عند الله في جنات النعيم‏.‏ وفيه وعد بأن تكون زوجة النبيّ صلى الله عليه وسلم في الجنة‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا محمد بن مسلم، حدثنا أبو نعيم، حدثنا عبد السلام بن حرب، عن يزيد بن عبد الرحمن، عن الحكم، عن يحيى بن الجزار قال‏:‏ جاء أسير بن جابر إلى عبد الله فقال‏:‏ لقد سمعت الوليد بن عقبة تكلم بكلام أعجبني‏.‏ فقال عبد الله‏:‏ إن الرجل المؤمن يكون في قلبه الكلمة غير طيبة تتجلجل في صدره ما تستقر حتى يلفظها، فيسمعها رجل عنده يَتُلّها فيضمها إليه‏.‏ وإن الرجل الفاجر يكون في قلبه الكلمة الطيبة تتجلجل في صدره ما تستقر حتى يلفظها، فيسمعها الرجل الذي عنده يَتُلُّها فيضمها إليه، ثم قرأ عبد الله‏:‏ ‏{‏الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ‏}‏‏.‏

ويشبه هذا ما رواه الإمام أحمد في المسند مرفوعا‏:‏ ‏"‏مثل الذي يسمع الحكمة ثم لا يُحدِّث إلا بشرِّ ما سمع، كمثل رجل جاء إلى صاحب غنم، فقال‏:‏ أجْزِرني شاة‏.‏ فقال‏:‏ اذهب فَخُذ بأذُن أيها شئتَ‏.‏ فذهب فأخذ بأذن كَلْب الغنم‏"‏ وفي الحديث الآخر‏:‏ ‏"‏الحكمة ضالة المؤمن حيث وجدها أخذها‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27 - 29‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ‏}‏

هذه آداب شرعية، أدّب الله بها عباده المؤمنين، وذلك في الاستئذان أمر الله المؤمنين ألا يدخلوا بيوتًا غير بيوتهم حتى يستأنسوا،أي‏:‏ يستأذنوا قبل الدخول ويسلموا بعده‏.‏ وينبغي أن يستأذن ثلاثًا، فإن أذن له، وإلا انصرف، كما ثبت في الصحيح‏:‏ أن أبا موسى حين استأذن على عمر ثلاثًا، فلم يؤذن له، انصرف‏.‏ ثم قال عمر‏:‏ ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس يستأذن‏؟‏ ائذنوا له‏.‏ فطلبوه فوجدوه قد ذهب، فلما جاء بعد ذلك قال‏:‏ ما رَجَعَك‏؟‏ قال‏:‏ إني استأذنت ثلاثًا فلم يؤذن لي، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏إذا استأذن أحدكم ثلاثًا، فلم يؤذن له، فلينصرف‏"‏‏.‏ فقال‏:‏ لَتَأتِيَنَّ على هذا ببينة وإلا أوجعتك ضربًا‏.‏ فذهب إلى ملأ من الأنصار، فذكر لهم ما قال عمر، فقالوا‏:‏ لا يشهد لك إلا أصغرنا‏.‏ فقام معه أبو سعيد الخُدْريّ فأخبر عمر بذلك، فقال‏:‏ ألهاني عنه الصَّفْق بالأسواق‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حَدَّثنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر عن ثابت، عن أنس -أو‏:‏ غيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استأذن على سعد بن عبادة فقال‏:‏‏"‏السلام عليك ورحمة الله‏"‏‏.‏ فقال سعد‏:‏ وعليك السلام ورحمة الله ولم يسمع النبي صلى الله عليه وسلم حتى سلم ثلاثًا‏.‏ ورد عليه سعد ثلاثًا ولم يُسْمعه‏.‏ فرجع النبي صلى الله عليه وسلم، واتبعه سعد فقال‏:‏ يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، ما سلمتَ تسليمة إلا وهي بأذني، ولقد رَدَدْت عليك ولم أُسْمِعك، وأردتُ أن أستكثر من سلامك ومن البركة‏.‏ ثم أدخله البيت، فقرَّب إليه زَبيبًا، فأكل نبي الله‏.‏ فلما فرغ قال‏:‏ ‏"‏أكل طعامكم الأبرار، وصَلَّت عليكم الملائكة، وأفطر عندكم الصائمون‏"‏‏.‏

وقد رَوَى أبو داود والنسائي، من حديث أبي عمرو الأوزاعي‏:‏ سمعت يحيى بن أبي كثير يقول‏:‏ حدثني محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة، عن قيس بن سعد -هو ابن عبادة -قال‏:‏ زارنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في منزلنا، فقال‏:‏ ‏"‏السلام عليكم ورحمة الله‏"‏‏.‏ فردّ سعد ردًا خفيًا ، قال قيس‏:‏ فقلت‏:‏ ألا تأذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فقال‏:‏ ذَرْه يكثر علينا من السلام‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏‏"‏السلام عليكم ورحمة الله‏"‏‏.‏ فرد سعد رَدًا خفيًا ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏السلام عليكم ورحمة الله‏"‏ ثم رَجَع رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتبعه سعد فقال‏:‏ يا رسول الله، إني كنت أسمع تسليمك، وأرد عليك ردّا خفيًا ، لتكثر علينا من السلام‏.‏ قال‏:‏ فانصرف معه ‏[‏رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر له سعد بغسل، فاغتسل، ثم ناوله ملْحَفَة مصبوغة‏]‏ بزعفران -أو‏:‏ وَرس -فاشتمل بها، ثم رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه وهو يقول‏:‏ ‏"‏اللهم اجعل صلاتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة‏"‏‏.‏ قال‏:‏ ثم أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطعام، فلما أراد الانصراف قرّب إليه سعد حمارًا قد وَطَّأ عليه بقطيفة، فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال سعد‏:‏ يا قيس، اصحب رسولالله صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال قيس‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏اركب‏"‏‏.‏ فأبيت، فقال‏:‏ ‏"‏إما أن تركب وإما أن تنصرف‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فانصرفت‏.‏ وقد روي هذا من وجه آخر فهو حديث جيد قويّ، والله أعلم‏.‏

ثم ليُعْلمْ أنه ينبغي للمستأذن على أهل المنزل ألا يقف تلقاء الباب بوجهه، ولكن ليَكن البابُ، عن يمينه أو يساره؛ لما رواه أبو داود‏:‏ حدثنا مُؤَمَّل بن الفضل الحراني -في آخرين -قالوا‏:‏ حدثنا بَقيَّة، حدثنا محمد بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن بُسْر قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم، لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر، ويقول‏:‏ ‏"‏السلام عليكم، السلام عليكم‏"‏‏.‏ وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور‏.‏ تَفَرد به أبو داود‏.‏

وقال أبو داود أيضًا‏:‏ حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير،‏(‏ح‏)‏ قال أبو داود‏:‏ وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا حفص، عن الأعمش، عن طلحة، عن هُزَيل قال‏:‏ جاء رجل -قال عثمان‏:‏ سعد -فوقف على باب النبي صلى الله عليه وسلم يستأذن، فقام على الباب -قال عثمان‏:‏ مستقبل الباب -فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏هكذا عنك -أو‏:‏ هكذا -فإنما الاستئذان من النظر‏"‏‏.‏ وقد رواه أبو داود الطيالسي، عن سفيان الثوري، عن الأعمش عن طلحة بن مُصَرّف، عن رجل، عن سعد، عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ رواه أبو داود من حديثه‏.‏

وفي الصحيحين، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فَخَذَفته بحصاة، ففقأت عينه، ما كان عليك من جناح‏"‏‏.‏

وأخرج الجماعة من حديث شعبة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر قال‏:‏ أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم في دَين كان على أبي، فدققت الباب، فقال‏:‏ ‏"‏من ذا‏"‏‏؟‏ قلت‏:‏ أنا‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏أنا، أنا‏"‏ كأنه كرهه‏.‏

وإنما كره ذلك لأن هذه اللفظة لا يُعرَف صاحبها حتى يُفصح باسمه أو كنيته التي هو مشهور بها، وإلا فكل أحد يُعبِّر عن نفسه بـ‏"‏أنا‏"‏، فلا يحصل بها المقصود من الاستئذان، الذي هو الاستئناس المأمور به في الآية‏.‏

وقال العَوْفي، عن ابن عباس‏:‏ الاستئناس‏:‏ الاستئذان‏.‏ وكذا قال غيرُ واحد‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا ابن بَشَّار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن أبي بِشْر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في هذه الآية‏:‏ ‏{‏لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا‏}‏

قال‏:‏ إنما هي خطأ من الكاتب، ‏"‏حَتَّى تَسْتَأذنُوا وَتُسَلِّمُوا‏"‏‏.‏

وهكذا رواه هُشَيم، عن أبي بشر -وهو جعفر بن إياس -به‏.‏ وروى معاذ بن سليمان، عن جعفر بن إياس، عن سعيد، عن ابن عباس، بمثله، وزاد‏:‏ وكان ابن عباس يقرأ‏:‏ ‏"‏حَتَّى تَسْتَأذنُوا وَتُسَلِّمُوا‏"‏، وكان يقرأ على قراءة أبي بن كعب رضي الله عنه‏.‏ وهذا غريب جدًّا عن ابن عباس‏.‏

وقال هُشَيْم أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم قال‏:‏ في مصحف ابن مسعود‏:‏ ‏"‏حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا‏"‏‏.‏ وهذا أيضًا رواية عن ابن عباس، وهو اختيار ابن جرير‏.‏

وقد قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا رَوْح، حدثنا ابن جُرَيْج، أخبرني عمرو بن أبي سفيان‏:‏ أن عمرو بن أبي صفوان أخبره، أن كَلَدَةَ بن الحنبل أخبره، أن صفوان بن أمية بعثه في الفتح بِلبَأ وجَدَايَة وضَغَابيس، والنبي صلى الله عليه وسلم بأعلى الوادي‏.‏ قال‏:‏ فدخلتُ عليه ولم أسلم ولم أستأذن‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ارجع فقل‏:‏ السلام عليكم، أأدخل‏؟‏‏"‏ وذلك بعدما أسلم صفوان‏.‏

ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث ابن جريج، به وقال الترمذي‏:‏ حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديثه‏.‏

وقال أبو داود‏:‏ حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو الأحوَص، عن منصور، عن رِبْعي قال‏:‏ حدثنا رجل من بني عامر استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في بيته، فقال‏:‏ أألج‏؟‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه‏:‏ ‏"‏اخرج إلى هذا فعلِّمه الاستئذان، فقل له‏:‏ قل‏:‏ السلام عليكم، أأدخل‏؟‏‏"‏ فسمعه الرجل فقال‏:‏ السلام عليكم، أأدخل‏؟‏ فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم، فدخل‏.‏

وقال هُشَيْم‏:‏ أخبرنا منصور، عن ابن سِيرِين -وأخبرنا يونس بن عبيد، عن عَمْرو بن سعيد الثقفي -أن رجلا استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ أألج -أو‏:‏ أنلج‏؟‏ -فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأمة له، يقال لها روضة‏:‏ ‏"‏قومي إلى هذا فعلميه، فإنه لا يحسن يستأذن، فقولي له يقول‏:‏ السلام عليكم، أأدخل‏"‏‏.‏ فسمعها الرجل، فقالها، فقال‏:‏ ‏"‏ادخل‏"‏‏.‏

وقال الترمذي‏:‏ حدثنا الفضل بن الصباح، حدثنا سعيد بن زكريا، عن عَنْبَسَة بن عبد الرحمن، عن محمد بن زاذان، عن محمد بن المنْكَدِر، عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏السلام قبل الكلام‏"‏‏.‏ ثم قال الترمذي‏:‏ عنبسة ضعيف الحديث ذاهب، ومحمد بن زاذان مُنكَر الحديث‏.‏

وقال هُشَيْم‏:‏ قال مغيرة‏:‏ قال مجاهد‏:‏ جاء ابن عمر من حاجة، وقد آذاه الرمضاء، فأتى فُسْطَاط امرأة من قريش، فقال‏:‏ السلام عليكم، أأدخل‏؟‏ قالت‏:‏ ادخل بسلام‏.‏ فأعاد، فأعادت، وهو يُرَاوح بين قدميه، قال‏:‏ قولي‏:‏ ادخل‏.‏ قالت‏:‏ ادخل، فدخل‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو نعيم الأحول، حدثنا خالد بن إياس، حدثتني جدتي أم إياس قالت‏:‏ كنت في أربع نسوة نستأذن ‏[‏على عائشة‏]‏ فقلت‏:‏ ندخل‏؟‏ قالت‏:‏ لا قلن لصاحبتكن‏:‏ تستأذن‏.‏ فقالت‏:‏ السلام عليكم، أندخل‏؟‏ قالت‏:‏ ادخلوا، ثم قالت‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا‏}‏ ‏[‏الآية‏]‏‏.‏

وقال هُشَيْم‏:‏ أخبرنا أشعث بن سَوَّار، عن كُرْدُوس، عن ابن مسعود قال‏:‏ عليكم أن تستأذنوا على أمهاتكم وأخواتكم‏.‏ قال أشعث، عن عدي بن ثابت‏:‏ إن امرأة من الأنصار قالت‏:‏ يا رسول الله، إني أكون في منزلي على الحال التي لا أحب أن يراني أحد عليها، والد ولا ولد، وإنه لا يزال يدخل عليَّ رجل من أهلي، وأنا على تلك الحال‏؟‏ قال‏:‏ فنزلت‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا‏}‏‏.‏

وقال ابن جريج‏:‏ سمعت عطاء بن أبي رباح يخبر عن ابن عباس، رضي الله عنه، قال‏:‏ ثلاث آيات جَحَدها الناس‏:‏ قال الله‏:‏ ‏{‏إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 13‏]‏، قال‏:‏ ويقولون‏:‏ إن أكرمهم عند الله أعظمهم بيتًا‏.‏ قال‏:‏ والإذن كله قد جحده الناس‏.‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ أستأذن على أخواتي أيتام في حجري، معي في بيت واحد‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ فرددت ليرخِّص لي، فأبى‏.‏ قال‏:‏ تحب أن تراها عريانة‏؟‏ قلت‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ فاستأذن‏.‏ قال‏:‏ فراجعته أيضًا، فقال‏:‏ أتحب أن تطيع الله‏؟‏ قلت‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ فاستأذن‏.‏

قال ابن جُرَيْج‏:‏ وأخبرني ابن طاوس عن أبيه قال‏:‏ ما من امرأة أكره إلي أن أرى عريتها من ذات محرم‏.‏ قال‏:‏ وكان يشدد في ذلك‏.‏

وقال ابن جريج، عن الزهري‏:‏ سمعت هُزَيل بن شُرَحْبِيل الأوْدِيّ الأعمى، أنه سمع ابن مسعود يقول‏:‏ عليكم الإذن على أمهاتكم‏.‏

وقال ابن جريج‏:‏ قلت لعطاء‏:‏ أيستأذن الرجل على امرأته‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏

وهذا محمول على عدم الوجوب، وإلا فالأولى أن يعلمها بدخوله ولا يفاجئها به، لاحتمال أن تكون على هيئة لا تحب أن يراها عليها‏.‏

وقال أبو جعفر بن جرير‏:‏ حدثنا القاسم، ‏[‏قال‏]‏ حدثنا الحسين، حدثنا محمد بن حازم، عن الأعمش، عن عمرو بن مُرَّة، عن يحيى بن الجزار، عن ابن أخي زينب -امرأة عبد الله بن مسعود -، عن زينب، رضي الله عنها، قالت‏:‏ كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب، تنحنح وبزق؛ كراهية أن يهجُم منا على أمر يكرهه‏.‏ إسناد صحيح‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أحمد بن سِنَان الواسطي، حدثنا عبد الله بن نُمَيْر، حدثنا

الأعمش، عن عمرو بن مُرَّة، عن أبي هُبَيْرة قال‏:‏ كان عبد الله إذا دخل الدار استأنس -تكلم ورفع صوته‏.‏ ‏[‏و‏]‏ قال مجاهد‏:‏ ‏{‏حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا‏}‏ قال‏:‏ تنحنحوا -أو تَنَخَّموا‏.‏

وعن الإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله، أنه قال‏:‏ إذا دخل الرجل بيته، استحب له أن يتنحنح، أو يحرك نعليه‏.‏

ولهذا جاء في الصحيح، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه نَهَى أن يطرق الرجل أهلَه طُروقًا -وفي رواية‏:‏ ليلا يَتَخوَّنهم‏.‏

وفي الحديث الآخر‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة نهارًا، فأناخ بظاهرها، وقال‏:‏ ‏"‏انتظروا حتى تدخل عشاء -يعني‏:‏ آخر النهار -حتى تمتشط الشَّعثَة وتستحدّ المُغَيبة‏"‏‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدَّثنا أبي، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عبد الرحمن بن سليمان، عن واصل بن السائب، حدَّثني أبو سَوْرة ابن أخي أبي أيوب، عن أبي أيوب قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، هذا السلام، فما الاستئناس‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏يتكلم الرجل بتسبيحة وتكبيرة وتحميدة، ويتنحنح فَيؤذنُ أهل البيت‏"‏‏.‏ هذا حديث غريب‏.‏

وقال قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا‏}‏ قال‏:‏ هو الاستئذان‏.‏ ‏[‏قال‏:‏ وكان يقال‏:‏ الاستئذان‏]‏ ثلاث، فمن لم يؤذن له فيهن، فليرجع‏.‏ أما الأولى‏:‏ فليسمع الحي، وأما الثانية‏:‏ فليأخذوا حذرهم، وأما الثالثة‏:‏ فإن شاءوا أذنوا وإن شاءوا رَدّوا‏.‏ ولا تَقِفَنَّ على باب قوم ردوك عن بابهم؛ فإن للناس حاجات ولهم أشغال، والله أولى بالعذر‏.‏

وقال مقاتل بن حيَّان في قوله‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا‏}‏ كان الرجل في الجاهلية إذا لقي صاحبه، لا يسلم عليه، ويقول‏:‏ حُيِّيتَ صباحًا وحييت مساء، وكان ذلك تحية القوم بينهم‏.‏ وكان أحدهم ينطلق إلى صاحبه فلا يستأذن حتى يقتحم، ويقول‏:‏ ‏"‏قد دخلتُ‏"‏‏.‏ فيشق ذلك على الرجل، ولعله يكون مع أهله، فغَيَّر الله ذلك كله، في ستر وعفة، وجعله نقيًا نزهًا من الدنس والقذر والدرَن، فقال‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا‏}‏‏.‏

وهذا الذي قاله مقاتل حسن؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ الاستئذان خير لكم، بمعنى‏:‏ هو خير للطرفين‏:‏ للمستأذن ولأهل البيت، ‏{‏‏.‏ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ‏}‏، وذلك لما فيه من التصرف في ملك الغير بغير إذنه، فإن شاء أذن، وإن شاء لم يأذن ‏{‏وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ إذا رَدُّوكم من الباب قبل الإذن أو بعده ‏{‏فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ رجوعكم أزكى لكم وأطهر ‏{‏وَاللهُ بِمَا تَعْملُونَ عَلِيم‏}‏‏.‏

وقال قتادة‏:‏ قال بعض المهاجرين‏:‏ لقد طلبتُ عمري كلَّه هذه الآية فما أدركتها‏:‏ أن أستأذنَ على بعض إخواني، فيقول لي‏:‏ ‏"‏ارجع‏"‏، فأرجع وأنا مغتبط ‏[‏لقوله‏]‏، ‏{‏وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ‏}‏‏.‏

وقال سعيد بن جبير‏:‏ ‏{‏وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا‏}‏ أي‏:‏ لا تقفوا على أبواب الناس‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ‏}‏ هذه الآية الكريمة أخصُّ من التي قبلها، وذلك أنها تقتضي جواز الدخول إلى البيوت التي ليس فيها أحد، إذا كان له فيها متاع، بغير إذن، كالبيت المعد للضيف، إذا أذن له فيه أول مرة، كفى‏.‏

قال ابن جريج‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ‏}‏، ثم نسخ واستثني فقال ‏{‏لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ‏}‏‏:‏ وكذا روي عن عكرمة، والحسن البصري‏.‏

وقال آخرون‏:‏ هي بيوت التجار، كالخانات ومنازل الأسفار، وبيوت مكة، وغير ذلك‏.‏ واختار ذلك ابن جرير، وحكاه، عن جماعة‏.‏ والأول أظهر، والله أعلم‏.‏

وقال مالك عن زيد بن أسلم‏:‏ هي بيوت الشَّعر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ‏}‏

هذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم عما حرم عليهم، فلا ينظروا إلا إلى ما أباح لهم النظر إليه ، وأن يغضوا أبصارهم عن المحارم، فإن اتفق أن وقع البصر على مُحرَّم من غير قصد، فليصرف بصره عنه سريعًا، كما رواه مسلم في صحيحه، من حديث يونس بن عُبَيد، عن عمرو بن سعيد، عن أبي زُرْعَة بن عمرو بن جرير، عن جده جرير بن عبد الله البجلي، رضي الله عنه، قال‏:‏ سألت النبي صلى الله عليه وسلم، عن نظرة الفجأة، فأمرني أن أصرفَ بَصَري‏.‏

وكذا رواه الإمام أحمد، عن هُشَيْم، عن يونس بن عبيد، به‏.‏ ورواه أبو داود والترمذي

والنسائي، من حديثه أيضًا ‏.‏ وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح‏.‏ وفي رواية لبعضهم‏:‏ فقال‏:‏ ‏"‏أطرقْ بصرك‏"‏، يعني‏:‏ انظر إلى الأرض‏.‏ والصرف أعم؛ فإنه قد يكون إلى الأرض، وإلى جهة أخرى، والله أعلم‏.‏

وقال أبو داود‏:‏ حدثنا إسماعيل بن موسى الفَزَاري، حدثنا شَريك، عن أبي ربيعة الإيادي، عن عبد الله بن بُرَيْدة، عن أبيه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي‏:‏ ‏"‏يا علي، لا تتبع النظرة النظرةَ، فإن لك الأولى وليس لك الآخرة‏"‏ ورواه الترمذي من حديث شريك، وقال‏:‏ غريب، لا نعرفه إلا من حديثه‏.‏

وفي الصحيح عن أبي سعيد قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إياكم والجلوس على الطرقات‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله، لا بد لنا من مجالسنا، نتحدث فيها‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن أبيتم، فأعطوا الطريق حقَّه‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ وما حقّ الطريق يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏غَضُّ البصر، وكَفُّ الأذى، وردّ السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر‏"‏‏.‏

وقال أبو القاسم البغوي‏:‏ حدثنا طالوت بن عباد، حدثنا فضل بن جبير‏:‏ سمعت أبا أمامة يقول‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏اكفلوا لي بِستّ أكفل لكم بالجنة‏:‏ إذا حدَّث أحدكم فلا يكذب، وإذا اؤتمن فلا يَخُن، وإذا وَعَد فلا يخلف‏.‏ وغُضُّوا أبصاركم، وكُفُّوا أيديكم، واحفظوا فروجكم‏"‏‏.‏

وفي صحيح البخاري‏:‏ ‏"‏من يكفل لي ما بين لَحْيَيه وما بين رجليه، أكفل له الجنة‏"‏‏.‏

وقال عبد الرزاق‏:‏ أنبأنا مَعْمَر، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عبيدة قال‏:‏ كل ما عُصي الله به، فهو كبيرة‏.‏ وقد ذكر الطَّرْفين فقال‏:‏ ‏{‏قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ‏}‏‏.‏

ولما كان النظر داعية إلى فساد القلب، كما قال بعض السلف‏:‏ ‏"‏النظر سهام سم إلى القلب‏"‏؛ ولذلك أمر الله بحفظ الفروج كما أمر بحفظ الأبصار التي هي بواعث إلى ذلك، فقال‏:‏ ‏{‏قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ‏}‏‏.‏ وحفظُ الفَرج تارةً يكون بمنعه من الزنى، كما قال ‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏29، 30‏]‏ وتارة يكون بحفظه من النظر إليه، كما جاء في الحديث في مسند أحمد والسنن‏:‏ احفظ عورتك، إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك‏"‏‏.‏

‏{‏ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ أطهر لقلوبهم وأنقى لدينهم، كما قيل‏:‏ ‏"‏مَنْ حفظ بصره، أورثه الله نورًا في بصيرته‏"‏‏.‏ ويروى‏:‏ ‏"‏في قلبه‏"‏‏.‏

وقد قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عتاب، حدثنا عبد الله بن المبارك، أخبرنا يحيى بن أيوب، عن عُبَيْد الله بن زَحْر، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ما من مسلم ينظر إلى محاسن امرأة ‏[‏أوّل مَرّة‏]‏ ثم يَغُضّ بصره، إلا أخلف الله له عبادة يجد حلاوتها‏"‏‏.‏ ورُوي هذا مرفوعًا عن ابن عمر، وحذيفة، وعائشة، رضي الله عنهم ولكن في إسنادها ضعف، إلا أنها في الترغيب، ومثله يتسامح فيه‏.‏

وفي الطبراني من طريق عبيد الله بن زَحْر،، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة مرفوعا‏:‏ ‏"‏لَتغضُنَّ أبصاركم، ولتحفظن فروجكم، ولتقيمُنّ وجوهكم -أو‏:‏ لتكسفن وجوهكم‏"‏‏.‏

وقال الطبراني‏:‏ حدثنا أحمد بن زهير التُّسْتُري قال‏:‏ قرأنا على محمد بن حفص بن عمر الضرير المقرئ، حدثنا يحيى بن أبي بُكَيْر، حدثنا هُرَيْم بن سفيان، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن النظر سهم من سهام إبليس مسموم، من تركه مخافتي، أبدلته إيمانا يجد حلاوته في قلبه‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ‏}‏، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏19‏]‏‏.‏

وفي الصحيح، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏كُتِبَ على ابن آدم حَظّه من الزنى، أدرَكَ ذلك لا محالة‏.‏ فَزنى العينين‏:‏ النظر‏.‏ وزنى اللسان‏:‏ النطقُ‏.‏ وزنى الأذنين‏:‏ الاستماع‏.‏ وزنى اليدين‏:‏ البطش‏.‏ وزنى الرجلين‏:‏ الخطى‏.‏ والنفس تمَنّى وتشتهي، والفرج يُصَدِّق ذلك أو يُكذبه‏"‏‏.‏ رواه البخاري تعليقًا، ومسلم مسندًا من وجه آخر بنحو ما تقدم‏.‏

وقد قال كثير من السلف‏:‏ إنهم كانوا ينهَون أن يحدَّ الرجل بَصَره إلى الأمرد‏.‏ وقد شَدَّد كثير من أئمة الصوفية في ذلك، وحَرَّمه طائفة من أهل العلم، لما فيه من الافتتان، وشَدّد آخرون في ذلك كثيرًا جدًا‏.‏

وقال ابن أبي الدنيا‏:‏ حدثنا أبو سعيد المدني ، حدثنا عمر بن سهل المازني، حدثني عمر بن محمد بن صُهْبَان، حدثني صفوان بن سليم، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏كل عين باكية يوم القيامة، إلا عينًا غَضّت عن محارم الله، وعينًا سهِرت في سبيل الله، وعينًا يخرج منها مثل رأس الذباب، من خشية الله، عز وجل‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏

هذا أمْرٌ من الله تعالى للنساء المؤمنات، وغَيْرَة منه لأزواجهنّ، عباده المؤمنين، وتمييز لهن عن صفة نساء الجاهلية وفعال المشركات‏.‏ وكان سبب نزول هذه الآية ما ذكره مقاتل بن حيَّان قال‏:‏ بلغنا -والله أعلم -أن جابر بن عبد الله الأنصاري حَدَّث‏:‏ أن ‏"‏أسماء بنت مُرْشدَة‏"‏ كانت في محل لها في بني حارثة، فجعل النساء يدخلن عليها غير مُتَأزّرات فيبدو ما في أرجلهن من الخلاخل، وتبدو صدورهن وذوائبهن، فقالت أسماء‏:‏ ما أقبح هذا‏.‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ‏}‏ الآية‏.‏

فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ‏}‏ أي‏:‏ عما حَرَّم الله عليهن من النظر إلى غير أزواجهن‏.‏ ولهذا ذهب ‏[‏كثير من العلماء‏]‏ إلى أنه‏:‏ لا يجوز للمرأة أن تنظر إلى الأجانب بشهوة ولا بغير شهوة أصلا‏.‏ واحتج كثير منهم بما رواه أبو داود والترمذي، من حديث الزهري، عن نبهان -مولى أم سلمة -أنه حدثه‏:‏ أن أم سلمة حَدَّثته‏:‏ أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وميمونة، قالت‏:‏ فبينما نحن عنده أقبل ابنُ أمّ مكتوم، فدخل عليه، وذلك بعدما أُمِرْنا بالحجاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏احتجبا منه‏"‏ فقلت‏:‏ يا رسول الله، أليس هو أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أو عمياوان أنتما‏؟‏ ألستما تبصرانه‏"‏‏.‏ ثم قال الترمذي‏:‏ هذا حديث حسن صحيح‏.‏

وذهب آخرون من العلماء إلى جواز نظرهن إلى الأجانب بغير شهوة، كما ثبت في الصحيح‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل ينظر إلى الحبشة وهم يلعبون بحرابهم يوم العيد في المسجد، وعائشة أم المؤمنين تنظر إليهم من ورائه، وهو يسترها منهم حتى مَلَّت ورجعت‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ‏}‏ قال سعيد بن جُبَيْر‏:‏، عن الفواحش‏.‏ وقال قتادة وسفيان‏:‏ عما لا يحل لهن‏.‏ وقال مقاتل‏:‏، عن الزنى‏.‏ وقال أبو العالية‏:‏ كل آية نزلت في القرآن يذكر فيها حفظ الفروج، فهو من الزنى، إلا هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ‏}‏ ألا يراها أحد‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا‏}‏ أي‏:‏ لا يُظهرْنَ شيئا من الزينة للأجانب، إلا ما لا يمكن إخفاؤه‏.‏

وقال ابن مسعود‏:‏ كالرداء والثياب‏.‏ يعني‏:‏ على ما كان يتعاناه نساء العرب، من المِقْنعة التي تُجَلِّل ثيابها، وما يبدو من أسافل الثياب فلا حرج عليها فيه؛ لأن هذا لا يمكن إخفاؤه‏.‏ ‏[‏ونظيره في زي النساء ما يظهر من إزارها، وما لا يمكن إخفاؤه‏.‏ وقال‏]‏ بقول ابن مسعود‏:‏ الحسن، وابن سيرين، وأبو الجوزاء، وإبراهيم النَّخَعي، وغيرهم‏.‏

وقال الأعمش، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا‏}‏ قال‏:‏ وجهها وكفيها والخاتم‏.‏ ورُوي عن ابن عمر، وعطاء، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وأبي الشعثاء، والضحاك، وإبراهيم النَّخَعي، وغيرهم -نحوُ ذلك‏.‏ وهذا يحتمل أن يكون تفسيرًا للزينة التي نهين عن إبدائها، كما قال أبو إسحاق السَّبيعي، عن أبي الأحْوَص، عن عبد الله قال في قوله‏:‏ ‏{‏وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ‏}‏‏:‏ الزينة القُرْط والدُّمْلُج والخلخال والقلادة‏.‏ وفي رواية عنه بهذا الإسناد قال‏:‏ الزينة زينتان‏:‏ فزينة لا يراها إلا الزوج‏:‏ الخاتم والسوار، ‏[‏وزينة يراها الأجانب، وهي‏]‏ الظاهر من الثياب‏.‏

وقال الزهري‏:‏ ‏[‏لا يبدو‏]‏ لهؤلاء الذين سَمَّى الله ممن لا يحل له إلا الأسورة والأخمرة والأقرطة من غير حسر، وأما عامة الناس فلا يبدو منها إلا الخواتم‏.‏

وقال مالك، عن الزهري‏:‏ ‏{‏إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا‏}‏ الخاتم والخلخال‏.‏

ويحتمل أن ابن عباس ومن تابعه أرادوا تفسير ما ظهر منها بالوجه والكفين، وهذا هو المشهور عند الجمهور، ويستأنس له بالحديث الذي رواه أبو داود في سننه‏:‏

حدثنا يعقوب بن كعب الإنطاكي ومُؤَمَّل بن الفضل الحَرَّاني قالا حدثنا الوليد، عن سعيد بن بَشِير، عن قتادة، عن خالد بن دُرَيك، عن عائشة، رضي الله عنها؛ أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها وقال‏:‏ ‏"‏يا أسماء، إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يُرَى منها إلا هذا‏"‏ وأشار إلى وجهه وكفيه‏.‏

لكن قال أبو داود وأبو حاتم الرازي‏:‏ هذا مرسل؛ خالد بن دُرَيك لم يسمع من عائشة، فالله أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ‏}‏ يعني‏:‏ المقانع يعمل لها صَنفات ضاربات على صدور النساء، لتواري ما تحتها من صدرها وترائبها؛ ليخالفن شعارَ نساء أهل الجاهلية، فإنهن لم يكن يفعلن ذلك، بل كانت المرأة تمر بين الرجال مسفحة بصدرها، لا يواريه شيء، وربما أظهرت عنقها وذوائب شعرها وأقرطة آذانها‏.‏ فأمر الله المؤمنات أن يستترن في هيئاتهن وأحوالهن، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 59‏]‏‏.‏ وقال في هذه الآية الكريمة‏:‏ ‏{‏وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ‏}‏ والخُمُر‏:‏ جمع خِمار، وهو ما يُخَمر به، أي‏:‏ يغطى به الرأس، وهي التي تسميها الناس المقانع‏.‏

قال سعيد بن جبير‏:‏ ‏{‏وَلْيَضْرِبْن‏}‏‏:‏ وليشددن ‏{‏بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ‏}‏ يعني‏:‏ على النحر والصدر، فلا يرى منه شيء‏.‏

وقال البخاري‏:‏ وقال أحمد بن شَبِيب ‏:‏ حدَّثنا أبي، عن يونس، عن ابن شِهَاب، عن عُرْوَةَ، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت‏:‏ يرحم الله نساء المهاجرات الأول، لما أنزل الله‏:‏ ‏{‏وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ‏}‏ شقَقْنَ مُرُوطهن فاختمرن به ‏.‏

وقال أيضا‏:‏ حدثنا أبو نُعَيم، حدثنا إبراهيم بن نافع، عن الحسن بن مسلم، عن صَفيّة بنت شيبة؛ أن عائشة، رضي الله عنها، كانت تقول ‏:‏ لما نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ‏}‏‏:‏ أخذن أزرهن فَشَقَقنها من قبل الحواشي، فاختمرن بها‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، حدثني الزنجيّ بن خالد، حدثنا عبد الله بن عثمان بن خُثَيْم، عن صفية بنت شيبة قالت‏:‏ بينا نحن عند عائشة، قالت‏:‏ فذكرنا نساء قريش وفضلهن‏.‏ فقالت عائشة، رضي الله عنها‏:‏ إن لنساء قريش لفضلا وإني -والله -وما رأيت أفضلَ من نساء الأنصار أشدّ تصديقًا بكتاب الله، ولا إيمانًا بالتنزيل‏.‏ لقد أنزلت سورة النور‏:‏ ‏{‏وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ‏}‏، انقلب إليهن رجالهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم فيها، ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته، وعلى كل ذي قرابة، فما منهن امرأة إلا قامت إلى مِرْطها المُرَحَّل فاعتجرت به، تصديقًا وإيمانًا بما أنزل الله من كتابه، فأصبحْنَ وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح معتجرات، كأن على رؤوسهن الغربان‏.‏

ورواه أبو داود من غير وجه، عن صفية بنت شيبة، به‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا يونس، أخبرنا ابن وهب، أن قُرَّةَ بن عبد الرحمن أخبره، عن ابن شهاب، عن عُرْوَة، عن عائشة؛ أنها قالت‏:‏ يرحم الله النساء المهاجرات الأوَل، لما أنزل الله‏:‏ ‏{‏وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ‏}‏ شَقّقن أكثَف مروطهن فاختمرن به‏.‏ ورواه أبو داود من حديث ابن وهب، به‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ‏}‏ يعني‏:‏ أزواجهن، ‏{‏أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ‏}‏ كل هؤلاء محارم المرأة يجوز لها أن تظهر عليهم بزينتها، ولكن من غير اقتصاد وتبهرج‏.‏

وقال ابن المنذر‏:‏ حدثنا موسى -يعني‏:‏ ابن هارون -حدثنا أبو بكر -يعني ابن أبي شيبة -حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا داود، عن الشعبي وعِكْرمَة في هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ‏}‏ -حتى فرغ منها قال‏:‏ لم يذكر العم ولا الخال؛ لأنهما ينعَتان لأبنائهما، ولا تضع خمارها عند العم والخال فأما الزوج فإنما ذلك كله من أجله، فتتصنع له ما لا يكون بحضرة غيره‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَوْ نِسَائِهِنَّ‏}‏ يعني‏:‏ تُظهر زينتها أيضًا للنساء المسلمات دون نساء أهل الذمة؛ لئلا تصفهن لرجالهن، وذلك -وإن كان محذورًا في جميع النساء -إلا أنه في نساء أهل الذمة أشدّ، فإنهن لا يمنعهن من ذلك مانع، وأما المسلمة فإنها تعلم أن ذلك حرام فتنزجر عنه‏.‏ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا تباشر المرأةَ المرأةَ، تنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها‏"‏‏.‏ أخرجاه في الصحيحين، عن ابن مسعود‏.‏

وقال سعيد بن منصور في سننه‏:‏ حدثنا إسماعيل بن عياش، عن هشام بن الغاز،، عن عبادة بن نُسَيّ، عن أبيه، عن الحارث بن قيس قال‏:‏ كتب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة‏:‏ أما بعد، فإنه بلغني أن نساء من نساء المسلمين يدخلن الحمامات مع نساء أهل الشرك، فانْهَ مَنْ قِبَلَك فلا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن ينظر إلى عورتها إلا أهل ملتها‏.‏

وقال مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ نِسَائِهِنَّ‏}‏ قال‏:‏ نساؤهن المسلمات، ليس المشركات من نسائهن، وليس للمرأة المسلمة أن تنكشف بين يدي المشركة‏.‏

وروى عَبد في تفسيره عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏أَوْ نِسَائِهِنَّ‏}‏، قال‏:‏ هن المسلمات لا تبديه ليهودية ولا نصرانية، وهو النَّحْر والقُرْط والوٍشَاح، وما لا يحل أن يراه إلا محرم‏.‏وروى سعيد‏:‏ حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد قال‏:‏ لا تضع المسلمة خمارها عند مشركة؛ لأن الله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏أَوْ نِسَائِهِنَّ‏}‏ فليست من نسائهن‏.‏

وعن مكحول وعبادة بن نُسَيّ‏:‏ أنهما كرها أن تقبل النصرانيةُ واليهودية والمجوسية المسلمة‏.‏

فأما ما رواه ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا علي بن الحسين، حدثنا أبو عمير، حدثنا ضَمْرَة قال‏:‏ قال ابن عطاء، عن أبيه‏:‏ ولما قدم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بيت المقدس، كان قَوَابل نسائهم اليهوديات والنصرانيات فهذا -إن صح -مَحمولٌ على حال الضرورة، أو أن ذلك من باب الامتهان، ثم إنه ليس فيه كشف عورة ولا بد، والله أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ‏}‏ قال ابن جُرَيج ‏:‏ يعني‏:‏ من نساء المشركين، فيجوز لها أن تظهر ‏[‏زينتها لها وإن كانت مشركة؛ لأنها أمتها‏.‏ وإليه ذهب سعيد بن المسيَّب‏.‏ وقال الأكثرون‏:‏ بل يجوز لها أن تظهر‏]‏ على رقيقها من الرجال والنساء، واستدلوا بالحديث الذي رواه أبو داود‏:‏ حدثنا محمد بن عيسى، حدثنا أبو جميع سالم بن دينار، عن ثابت، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها‏.‏ قال‏:‏ وعلى فاطمة ثوب إذا قَنَّعت به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما تلقى قال‏:‏ ‏"‏إنه ليس عليك بأس، إنما هو أبوك وغلامك‏"‏‏.‏

وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في تاريخه ‏[‏في‏]‏ ترجمة حُدَيْج الخَصِيّ -مولى معاوية -أن عبد الله بن مَسْعَدَة الفزاري كان أسود شديد الأدمة، وأنه قد كان النبي صلى الله عليه وسلم وهبه لابنته فاطمة، فربته ثم أعتقته، ثم قد كان بعد ذلك كله مع معاوية أيام صفين، وكان من أشد الناس على عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا سفيان بن عُيَيْنَة، عن الزهري، عن نَبْهَان، عن أم سلمة، ذكرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إذا كان لإحداكن مُكَاتَب، وكان له ما يؤدي، فلتحتجب منه‏"‏‏.‏ ورواه أبو داود، عن مُسَدَّد، عن سفيان، به‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ‏}‏ يعني‏:‏ كالأجراء والأتباع الذين ليسوا بأكفاء، وهم مع ذلك في عقولهم وَله وخَوَث، ولا همَّ لهم إلى النساء ولا يشتهونهن‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ هو المغفل الذي لا شهوة له‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ هو الأبْلَه‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ هو المخَنَّث الذي لا يقوم زُبُّه‏.‏ وكذلك قال غير واحد من السلف‏.‏

وفي الصحيح من حديث الزهري، عن عُرْوَةَ، عن عائشة؛ أن مخنثًا كان يدخل على أهل

رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا يعدّونه من غير أولي الإربة، فدخل النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو ينَعت امرأة‏:‏ يقول إنها إذا أقبلت أقبلت بأربع، وإذا أدبرت أدبرت بثمان‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ألا أرى هذا يعلم ما هاهنا، لا يدخلَنّ عليكُنَ‏"‏ فأخرجه، فكان بالبيداء يدخل يوم كل جمعة يستطعم‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عُرْوَةَ، عن أبيه، عن زينب بنت أبي سلمة، عن أم سلمة قالت‏:‏ دخل عليها ‏[‏رسول الله صلى الله عليه وسلم‏]‏ وعندها مخنث، وعندها ‏[‏أخوها‏]‏ عبد الله بن أبي أمية ‏[‏والمخنث يقول لعبد الله‏:‏ يا عبد الله بن أبي أمية‏]‏ إن فتح الله عليكم الطائف غدًا، فعليك بابنة غيلان، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان‏.‏ قال‏:‏ فسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأم سلمة‏:‏ ‏"‏لا يدخلن هذا عليك‏"‏‏.‏ أخرجاه في الصحيحين، من حديث هشام بن عروة، به‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت‏:‏ كان رجل يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مخنث، وكانوا يَعُدّونه من غير أولي الإربة، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم يوما وهو عند بعض نسائه، وهو ينعت امرأة‏.‏ فقال‏:‏ إنها إذا أقبلت أقبلت بأربع، وإذا أدبرت أدبرت بثمان‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ألا أرى هذا يعلم ما هاهنا‏؟‏ لا يدخلَنَّ عليكم هذا‏"‏ فحجبوه‏.‏

ورواه مسلم، وأبو داود، والنسائي من طريق عبد الرزاق، به‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ‏}‏ يعني‏:‏ لصغرهم لا يفهمون أحوال النساء وعوراتهنّ من كلامهن الرخيم، وتعطفهن في المشية وحركاتهن، فإذا كان الطفل صغيرًا لا يفهم ذلك، فلا بأس بدخوله على النساء‏.‏فأما إن كان مراهقا أو قريبا منه، بحيث يعرف ذلك ويدريه، ويفرق بين الشوهاء والحسناء، فلا يمكن من الدخول على النساء‏.‏ وقد ثبت في الصحيحين، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏إياكم والدخول على النساء‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله، أفرأيت الحَمْو‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏الحَمْو الموت‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ‏}‏ كانت المرأة في الجاهلية إذا كانت تمشي في الطريق وفي رجلها خلخال صامت -لا يسمع صوته -ضربت برجلها الأرض، فيعلم الرجال طنينه، فنهى الله المؤمنات عن مثل ذلك‏.‏ وكذلك إذا كان شيء من زينتها مستورًا، فتحركت بحركة لتظهر ما هو خفي، دخل في هذا النهي؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ‏}‏‏:‏ ومن ذلك أيضا أنها تنهى عن التعطر والتطيب عند خروجها من بيتها ليَشْتَمَّ‏}‏ الرجال طيبها، فقد قال أبو عيسى الترمذي‏:‏

حدثنا محمد بن بشار، حدثنا يحيى بن سعيد القَّطَّان، عن ثابت بن عُمَارة الحنفي، عن غُنَيْم بن قيس، عن أبي موسى رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏كل عين زانية، والمرأة إذا استعطرت فمرَّت بالمجلس فهي كذا وكذا‏"‏ يعني زانية‏.‏

قال‏:‏ وفي الباب، عن أبي هريرة، وهذا حسن صحيح‏.‏ رواه أبو داود والنسائي،من حديث ثابت بن عمارة، به‏.‏

وقال أبو داود‏:‏ حدثنا محمد بن كثير، أخبرنا سفيان، عن عاصم بن عبيد الله، عن عبيد مولى أبي رُهْم، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال‏:‏ لقيتْه امرأة وجد منها ريح الطيب، ولذيلها إعصار فقال‏:‏ يا أمة الجبار، جئت من المسجد‏؟‏ قالت‏:‏ نعم‏.‏ قال لها‏:‏ ‏[‏وله‏]‏ تَطَيَّبتِ‏؟‏ قالت‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ إني سمعت حبي أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏لا يقبل الله صلاة امرأة تَطَيبت لهذا المسجد، حتى ترجع فتغتسل غُسلها من الجنابة‏"‏‏.‏ ورواه ابن ماجه، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن سفيان -هو ابن عيينة - به‏.‏

وروى الترمذي أيضًا من حديث موسى بن عُبَيدة، عن أيوب بن خالد، عن ميمونة بنت سعد؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏الرافلة في الزينة في غير أهلها، كمثل ظلمة يوم القيامة لا نور لها‏"‏‏.‏

ومن ذلك أيضا أنهن يُنهَين عن المشي في وسط الطريق؛ لما فيه من التبرج‏.‏ قال أبو داود‏:‏

حدثنا القَعْنَبِيّ، حدثنا عبد العزيز -يعني‏:‏ ابن محمد -عن أبي اليمان، عن شداد بن أبي عمرو بن حماس، عن أبيه، عن حمزة بن أبي أسيد الأنصاري، عن أبيه‏:‏ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو خارج من المسجد -وقد اختلط الرجال مع النساء في الطريق -فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء‏:‏ ‏"‏استأخرن، فإنه ليس لكن أن تَحْققْن الطريق، عليكن بحافات الطريق‏"‏، فكانت المرأة تلصق بالجدار، حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار، من لصوقها به‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏ أي‏:‏ افعلوا ما آمركم به من هذه الصفات الجميلة والأخلاق الجليلة، واتركوا ما كان عليه أهل الجاهلية من الأخلاق والصفات الرذيلة، فإن الفَلاح كل الفَلاح في فعل ما أمر الله به ورسوله، وترك ما نهيا عنه، والله تعالى هو المستعان ‏[‏وعليه التكلان‏]‏‏.‏